الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد وُجدتُ في طيبَة: ومَدافن الفراعنة في منفيس بمصر صور على الآثار مرسوم عليها: صور خزائن شاحذين مداهم وقد صبغوها في الصور باللون الأزرق لون الفولاذ، وذلك في القرن الحادي والعشرين قبل التاريخ المسيحي.وقد ذكر في التوراة وفي الحديث قصة الذبيح، وقصة اختتان إبراهيم بالقدوم.ولم يذكر أن السكين ولالقدوم كانتا من حجر الصوان، فالأظهر أنه بآلة الحديد، ومن الحديد تتخذ السلاسل للقيد، والمقامع للضرب، وسيأتي قوله تعالى: {ولهم مقامع من حديد} في سورة [الحج: 21].والخلق: بعنى المخلوق، أي أو خلقًا آخر مما يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة ويستحيل عندكم على الله إحياؤه مثل الفولاذ والنحاس.وقوله: {مما يكبر في صدوركم} صفة {خلقًا}.ومعنى {يكبر} يعظم وهو عظم مجازي بمعنى القوي في نوعه وصفاته، والصدور: العقول، أي مما تعدونه عظيمًا لا يتغير.وفي الكلام حذف دل عليْه الكلام المردود وهو قولهم: {أئذا كنا عظامًا ورفاتًا أئنا لمبعوثون} [الإسراء: 49].والتقدير: كونوا أشياء أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات.والمعنى: لو كنتم حجارة أو حديدًا لأحياكم الله، لأنهم جعلوا كونهم عظامًا حجة لاستحالة الإعادة، فرد عليهم بأن الإعادة مقدرة لله تعالى ولو كنتم حجارة أو حديدًا، لأن الحجارة والحديد أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات إذ لم يسبق فيهما حلول الحياة قط بخلاف الرفات والعظام.والتفريع في {فسيقولون من يعيدنا} على جملة {قل كونوا حجارة} أي قل لهم ذلك فسيقولون لك: من يعيدنا.وجُعِلَ سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل في الاستحالة من البحث عن أصل الإعادة، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي لأن التسليم الجدلي أقوى، في معارضة الدعوى، من المنع.والاستفهام في {من يعيدنا} تهكمي.ولما كان قولهم هذا محقق الوقوع في المستقبل أمر النبي بأن يجيبهم عندما يقولونه جواب تعيين لمن يعيدهم إبطالًا للازم التهكم، وهو الاستحالة في نظرهم بقوله: {قل الذي فطركم أول مرة} إجراء لظاهر استفهامهم على أصله بحمله على خلاف مرادهم، لأن ذلك أجدر على طريقة الأسلوب الحكيم لزيادة المحاجة، كقوله في محاجة موسى لفرعون {قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين} [الشعراء: 25: 26].وجيء بالمسند إليه موصولًا لقصد ما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم بأن الذي فطرهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم، كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] فإنه لقدرته التي ابتدأ بها خلقكم في المرة الأولى قادر أن يخلقكم مرة ثانية.والإنغاض: التحريك من أعلى إلى أسفل والعكس.فإنغاض الرأس تحريكه كذلك، وهو تحريك الاستهزاء.واستفهموا عن وقته بقولهم: {متى هو} استفهام تهكم أيضًا؛ فأمر الرسول بأن يجيبهم جوابًا حقًا إبطالًا للازم التهكم، كما تقدم في نظيره آنفًا.وضمير {متى هو} عائد إلى العود المأخوذ من قوله: {يعيدنا} كقوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].و{عسى} للرجاء على لسان الرسول: والمعنى لا يبعد أن يكون قريبًا.و{يوم يدعوكم} بدل من الضمير المستتر في {يكون} من قوله: {أن يكون قريبًا}.وفتحته فتحة بناء لأنه أضيف إلى الجملة الفعلية.ويجوز أن يكون ظرفًا ل {يكون}، أي يكون يوم يدعوكم، وفتحته فتحة نصب على الظرفية.والدعاء يجوز أن يحمل على حقيقته، أي دعاء الله الناس بواسطة الملائكة الذين يسوقون الناس إلى المحشر.ويجوز أن يحمل على الأمر التكويني بإحيائهم، فأطلق عليه الدعاء لأن الدعاء يستلزم إحياء المدعو وحصول حضوره، فهو مجاز في الإحياء والتسخير لحضور الحساب.والاستجابة مستعارة لمطاوعة معنى {يدعوكم}، أي فتحيون وتمثلون للحساب.أي يدعوكم وأنتم عظام ورفات.وليس للعظام والرفات إدراك واستماع ولا ثم استجابة لأنها فرع السماع وإنما هو تصوير لسرعة الإحياء والإحضار وسرعة الانبعاث والحضور للحساب بحيث يحصل ذلك كحصول استماع الدعوة واستجابتها في أنه لا معالجة في تحصيله وحصوله ولا ريث ولا بطْء في زمانه.وضمائر الخطاب على هذا خطاب للكفار القائلين {من يعيدنا} والقائلين {متى هو}.والباء في {بحمده} للملابسة، فهي في معنى الحال، أي حامدين، فهم إذا بعثوا خلق فيهم إدراك الحقائق فعلموا أن الحق لله.ويجوز أن يكون {بحمده} متعلقًا بمحذوف على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والتقدير: انطق بحمده، كما يقال: باسم الله، أي ابتدىء، وكما يقال للمعرس: باليمن والبركة، أي احمد الله على ظهور صدق ما أنبأتكم به، ويكون اعتراضًا بين المتعاطفات.وقيل: إن قوله: {يوم يدعوكم} استئناف كلام خطاب للمؤمنين فيكون {يوم يدعوكم} متعلقًا بفعل محذوف، أي اذكروا يوم يدعوكم.والحمد على هذا الوجه محمول على حقيقته، أي تستجيبون حامدين الله على ما منحكم من الإيمان وعلى ما أعد لكم مما تشاهدون حين انبعاثكم من دلائل الكرامة والإقبال.وأما جملة {وتظنون إن لبثتم إلا قليلًا} فهي عطف على {تستجيبون}، أي وتحسبون أنكم ما لبثتم في الأرض إلا قليلًا.والمراد: التعجيب من هذه الحالة، ولذلك جاء في بعض آيات أخرى سؤال المولى حين يبعثون عن مدة لبثهم تعجيبًا من حالهم، قال تعالى: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون} [المؤمنون: 112: 114]، وقال: {فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام} [البقرة: 259].وهذا التعجيب تنديم للمشركين وتأييد للمؤمنين. والمراد هنا: أنهم ظنوا ظنًا خاطئًا، وهو محل التعجيب. وأما قوله في الآية الأخرى: قال إن لبثتم إلا قليلًا لو أنكم كنتم تعلمون فمعناه: أنه وإن طال فهو قليل بالنسبة لأيام الله. {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} لما أعقب ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتبليغه إلى المشركين من أقوال تعظهم وتنهنههم من قوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما تقولون} [الإسراء: 42] وقوله: قل كونوا حجارة [الإسراء: 50] وقوله: {قل عسى أن يكون قريبًا} [الإسراء: 51] ثني العنان إلى الأمر بإبلاغ المؤمنين تأديبًا ينفعهم في هذا المقام على عادة القرآن في تلوين الأغراض وتعقيب بعضها ببعض أضدادها استقصاء لأصناف الهدى ومختلف أساليبه ونفع مختلف الناس.ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبىء عن ضلال اعتقادٍ نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالًا تعرب عن حسن النية وعن نفوس زكية.وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي {يقولوا التي هي أحسن}.و{التي هي أحسن} صفة لمحذوف يدل عليه فعل {يقولوا}.تقديره: بالتي هي أحسن.وليس المراد مقالة واحدة.واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن.ونظيره قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]، أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن، فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة.فهذه الآية شديدة الاتصال بالتي قبلها وليست بحاجة إلى تطلب سبب لنزولها.وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه.وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل: أن النبي أمره بأعمالٍ تدخله الجنة ثم قال له: ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كُفّ عليك هذا.قال: قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم.والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضًا بحسن المعاملة وإلانةِ القول، لأن القول ينم عن المقاصد، بقرينة قوله: {إن الشيطان ينزغ بينهم}.ثم تأديبهم في مجادلة المشركين اجتنابًا لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم فذلك من نزغ الشيطان بينهم وبين عدوهم، قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصّلت: 34]. والمسلمون في مكة يومئذٍ طائفة قليلة وقد صرف الله عنهم ضر أعدائهم بتصاريف من لطفه ليكونوا آمنين، فأمرهم أن لا يكونوا سببًا في إفساد تلك الحالة.والمراد بقوله: {لعبادي} المؤمنون كما هو المعروف من اصطلاح القرآن في هذا العنوان. وروي أن قول التي هي أحسن أن يقولوا للمشركين: يهديكم الله، يرحمكم الله، أي بالإيمان.وعن الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.وجزم {يقولوا} على حذف لام الأمر وهو وارد كثيرًا بعد الأمر بالقول، ولك أن تجعل {يقولوا} جوابًا منصوبًا في جواب الأمر مع حذف مفعول القول لدلالة الجواب عليه.والتقدير: قل لهم: قُولوا التي هي أحسن يَقولوا ذلك.فيكون كناية على أن الامتثال شأنهم فإذا أمروا امتثلوا.وقد تقدم نظيره في قوله: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} في سورة [إبراهيم: 31].والنزغ: أصله الطعن السريع، واستعمل هنا في الإفساد السريع الأثر.وتقدم في قوله تعالى: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} في سورة [يوسف: 100].وجملة {إن الشيطان ينزغ بينهم} تعليل للأمر بقول التي هي أحسن.والمقصود من التعليل أن لا يستخفوا بفاسد الأقوال فإنها تثير مفاسد من عمل الشيطان.ولما كان ضمير {بينهم} عائدًا إلى عبادي كان المعنى التحذير من إلقاء الشيطان العداوة بين المؤمنين تحقيقًا لمقصد الشريعة من بث الأخوة الإسلامية.روى الواحدي: أن عمر بن الخطاب شتمه أعرابي من المُشركين فشتمه عمر وهَمّ بقتله فكاد أن يُثير فتنةً فنزلتْ هذه الآية.وأيّا ما كان سبب النزول فهو لا يقيد إطلاق صيغة الأمر للمسلمين بأن يقولوا التي أحسن في كل حال.وجملة {إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} تعليل لجملة {ينزغ بينهم}، وعلةُ العلة علة.وذكر {كان} للدلالة على أن صفة العداوة أمر مستقر في خلقته قد جبل عليْه.وعداوته للإنسان متقررة من وقت نشأة آدم عليه الصلاة والسلام وأنه يسول للمسلمين أن يغلِظوا على الكفار بوهمهم أن ذلك نصر للدين ليوقعهم في الفتنة، فإن أعظم كيد الشيطان أن يوقع المؤمن في الشر وهو يوهمه أنه يعمل خيرًا.{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)}.هذا الكلام متصل بقوله: {نحن أعلم بما يستمعون به} إلى قوله: {فلا يستطيعون سبيلا} [الإسراء: 47، 48].فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على العناد والإصرار على الكفر.وذلك يسوء النبي ويحزنه أن لا يهتدوا، فوُجه هذا الكلام إليه تسلية له.ويدل لذلك تعقيبه بقوله: {وما أرسلناك عليهم وكيلا}.ومعنى {إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} على هذا الكنايةُ عن مشيئة هديْه إياهم الذي هو سبب الرحمة، أو مشيئة تركهم وشأنَهم.وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها، وما قيل غيره أراه لا يلتئم.وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافًا إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيرًا بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شؤون المربوبين بما يليق بحالهم، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله: {أعلم بكم} وقعٌ بديع، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء.وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة {إن يشأ يرحمكم} الآية، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب.ومعنى {أعلم بكم} أعلم بحالكم، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم.فجملة {إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} مبينة للمقصود من جملة {ربكم أعلم بكم}.والرحمة والتعذيب مكنًى بهما عن الاهتداء والضلال، بقرينة مقارنته لقوله: {ربكم أعلم بكم} الذي هو كالمقدمة.
|